الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
وسنكشف كثيراً، وسنعرف كثيراً، وستتفتح لنا عجائب من أسرار هذا الكون وطاقاته، مما قد تعتبر أسرار الذرة بالقياس إليه لعبة أطفال! ولكننا سنظل في حدود الدائرة المرسومة للبشر في المعرفة. وفي حدود قول الله- سبحانه- {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} قليلاً بالقياس إلى ما في هذا الوجود من أسرار وغيوب لا يعلمها إلا خالقه وقيومه. وفي حدود تمثيله لعلمه غير المحدود، ووسائل المعرفة البشرية المحدودة بقوله: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله}فليس لنا- والحالة هذه- أن نجزم بوجود شيء أو نفيه. وبتصوره أو عدم تصوره. من عالم الغيب المجهول، ومن أسرار هذا الوجود وقواه، لمجرد أنه خارج عن مألوفنا العقلي أو تجاربنا المشهودة. ونحن لم ندرك بعد كل أسرار أجسامنا وأجهزتها وطاقاتها، فضلاً على إدراك أسرار عقولنا وأرواحنا!وقد تكون هنالك أسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عنه أصلاً. وأسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عن كنهه، فلا يكشف لنا إلا عن صفته أو أثره أو مجرد وجوده، لأن هذا لا يفيدنا في وظيفة الخلافة في الأرض.فإذا كشف الله لنا عن القدر المقسوم لنا من هذه الأسرار والقوى، عن طريق كلامه- لا عن طريق تجاربنا ومعارفنا الصادرة من طاقتنا الموهوبة لنا من لدنه أيضاً- فسبيلنا في هذه الحالة أن نتلقى هذه الهبة بالقبول والشكر والتسليم. نتلقاها كما هي فلا نزيد عليها ولا ننقص منها. لأن المصدر الوحيد الذي نتلقى عنه مثل هذه المعرفة لم يمنحنا إلا هذا القدر بلا زيادة. وليس هنالك مصدر آخر نتلقى عنه مثل هذه الأسرار!ومن هذا النص القرآني، ومن نصوص سورة الجن، والأرجح أنها تعبير عن الحادث نفسه، ومن النصوص الأخرى المتناثرة في القرآن عن الجن، ومن الآثار النبوية الصحيحة عن هذا الحادث، نستطيع أن ندرك بعض الحقائق عن الجن.. ولا زيادة..هذه الحقائق تتلخص في أن هنالك خلقاً اسمه الجن. مخلوق من النار. لقول إبليس في الحديث عن آدم: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}. وإبليس من الجن لقول الله تعالى: {إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه}. فأصله من أصل الجن.وأن هذا الخلق له خصائص غير خصائص البشر. منها خلقته من نار، ومنها أنه يرى الناس ولا يراه الناس، لقوله تعالى عن إبليس- وهو من الجن-: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} وأن له تجمعات معينة تشبه تجمعات البشر في قبائل وأجناس. للقول السابق: {إنه يراكم هو وقبيله...} وأن له قدرة على الحياة في هذا الكوكب الأرضي- لا ندري أين- لقوله تعالى: لآدم وإبليس معاً: {اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} والجن الذين سخروا لسليمان عليه السلام كانوا يقومون له بأعمال في الأرض تقتضي أن يكونوا مزودين بالقدرة على الحياة فيها.وأن له قدرة كذلك على الحياة خارج هذا الكوكب لقول الله تعالى حكاية عن الجن: {وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً} وأنه يملك التأثير في إدراك البشر وهو مأذون في توجيه الضالين منهم- غيرعباد الله- للنصوص السابقة، ولقوله تعالى في حكاية حوار إبليس اللعين:{قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} وغير هذا من النصوص المماثلة. ولكنا لا نعرف كيف يوسوس ويوجه وبأي أداة.وأنه يستطيع أن يسمع صوت الإنسان ويفهم لغته، بدلالة استماع نفر من الجن للقرآن وفهمه والتأثر به. وأنه قابل للهدى وللضلال بدلالة قول هذا النفر في سورة الجن: {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} وبدليل ذهابهم إلى قومهم منذرين يدعونهم إلى الإيمان، بعدما وجدوه في نفوسهم، وعلموا أن قومهم لم يجدوه بعد.وهذا هو القدر المستيقن في أمر الجن، وهو حسبنا، بلا زيادة عليه ليس عليها من دليل.فأما الحادث الذي تشير إليه هذه الآيات، كما تشير إليه سورة الجن كلها على الأرجح، فقد وردت فيه روايات متعددة نثبت أصحها:أخرج البخاري- بإسناده- عن مسدد، ومسلم عن شيبان بن فروخ عن أبي عوانة. وروى الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة وقال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا إسماعيل القاضي، أخبرنا مسدد، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم. انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ. وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم. فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا في مشارق الأرض ومغاربها، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فانطلقوا يضربون في مشارق الأرض ومغاربها، يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء. فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامداً إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر. فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فهنالك حين رجعوا إلى قومهم: وقالوا: يا قومنا {إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً}.. وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن} وإنما أوحي إليه قول الجن.وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي- بإسناده-عن علقمة، قال: قلت لابن مسعود رضي الله عنه هل صحب النبي صلى الله عليه وسلم منكم أحد ليلة الجن؟ قال: ما صحبه أحد منا ولكنا كنا معه ذات ليلة، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب. فقلنا: استطير، أو اغتيل. فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فلما أصبحنا فإذا هو جاء من قبل حراء. فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن». قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. وسألوه الزاد فقال: «كم كل عظم ذكر اسم الله تعالى عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم». فقال صلى الله عليه وسلم «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم».وقال: ساق ابن إسحاق- فيما رواه ابن هشام في السيرة- خبر النفر من الجن بعد خبر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف، بعد موت عمه أبي طالب، واشتداد الأذى عليه وعلى المسلمين في مكة. ورد ثقيف له رداً قبيحاً، وإغرائهم السفهاء والأطفال به، حتى أدموا قدميه صلى الله عليه وسلم بالحجارة. فتوجه إلى ربه بذلك الابتهال المؤثر العميق الكريم: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى. ولا حول ولا قوة إلا بك».قال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة، حين يئس من خير ثقيف. حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى. وهم- فيما ذكر لي- سبعة نفر من جن نصيبين. فاستمعوا له. فلما فرغ من صلاته ولو إلى قومهم منذرين. قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا. فقص الله خبرهم عليه صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} إلى قوله تعالى: {ويجركم من عذاب أليم}.. وقال تعالى: {قل أوحي إليَّ أنه استمع نفر من الجن} إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة.ويعقب ابن كثير في التفسير على رواية ابن إسحاق بقوله: وهذا صحيح.ولكن قوله: إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر. فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء، كما دل عليه حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- المذكور، وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان بعد موت عمه. وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره. والله أعلم.وهناك روايات أخرى كثيرة. ونحن نعتمد من جميع هذه الروايات الرواية الأولى عن ابن عباس- رضي الله عنهما- لأنها هي التي تتفق تماماً مع النصوص القرآنية: {قل أوحي إليَّ أنه استمع نفر من الجن} وهي قاطعة في أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما علم بالحادث عن طريق الوحي، وأنه لم ير الجن ولم يشعر بهم. ثم إن هذه الرواية هي الأقوى من ناحية الإسناد والتخريج. وتتفق معها في هذه النقطة رواية ابن إسحاق. كما يقويها ما عرفناه من القرآن من صفة الجن: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} وفي هذا غناء في تحقيق الحادث.{وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولو إلى قومهم منذرين}..لقد كان إذن تدبيراً من الله أن يصرف هؤلاء النفر من الجن إلى استماع القرآن، لا مصادفة عابرة. وكان في تقدير الله أن تعرف الجن نبأ الرسالة الأخيرة كما عرفت من قبل رسالة موسى؛ وأن يؤمن فريق منهم وينجو من النار المعدة لشياطين الجن كما هي معدة لشياطين الإنس.ويرسم النص مشهد هذا النفر- وهم ما بين ثلاثة وعشرة- وهم يستمعون إلى هذا القرآن، ويصور لنا ما وقع في حسهم منه، من الروعة والتأثر والرهبة والخشوع. {فلما حضروه قالوا أنصتوا}.. وتلقي هذه الكلمة ظلال الموقف كله طوال مدة الاستماع.{فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين}..وهذه كتلك تصور الأثر الذي انطبع في قلوبهم من الإنصات للقرآن. فقد استمعوا صامتين منتبهين حتى النهاية. فلما انتهت التلاوة لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومهم، وقد حملت نفوسهم ومشاعرهم منه ما لا تطيق السكوت عليه، أو التلكؤ في إبلاغه والإنذار به. وهي حالة من امتلأ حسه بشيء جديد، وحفلت مشاعره بمؤثر قاهر غلاب، يدفعه دفعاً إلى الحركة به والاحتفال بشأنه، وإبلاغه للآخرين في جد واهتمام:{قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم}..ولوا إلى قومهم مسارعين يقولون لهم: إنا سمعنا كتاباً جديداً أنزل من بعد موسى، يصدق كتاب موسى في أصوله. فهم إذن كانوا يعرفون كتاب موسى. فأدركوا الصلة بين الكتابين بمجرد سماع آيات من هذا القرآن، قد لا يكون فيها ذكر لموسى ولا لكتابه، ولكن طبيعتها تشي بأنها من ذلك النبع الذي نبع منه كتاب موسى.وشهادة هؤلاء الجن البعيدين- نسبياً- عن مؤثرات الحياة البشرية، بمجرد تذوقهم لآيات من القرآن، ذات دلالة وذات إيحاء عميق.ثم عبروا عما خالج مشاعرهم منه، وما أحست ضمائرهم فيه، فقالوا عنه:{يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم}..ووقع الحق والهدى في هذا القرآن هائل ضخم، لا يقف له قلب غير مطموس؛ ولا تصمد له روح غير معاندة ولا مستكبرة ولا مشدودة بالهوى الجامع اللئيم. ومن ثم لمس هذه القلوب لأول وهلة، فإذا هي تنطق بهذه الشهادة، وتعبر عما مسها منه هذا التعبير.ثم مضوا في نذارتهم لقومهم في حماسة المقتنع المندفع، الذي يحس أن عليه واجباً في النذارة لابد أن يؤديه:{يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم}..فقد اعتبروا نزول هذا الكتاب إلى الأرض دعوة من الله لكل من بلغته من إنس وجن؛ واعتبروا محمداً صلى الله عليه وسلم داعياً لهم إلى الله بمجرد تلاوته لهذا القرآن واستماع الثقلين له: فنادوا قومهم: {يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به}..وآمنوا كذلك بالآخرة، وعرفوا أن الإيمان والاستجابة لله يكون معهما غفران الذنب والإجارة من العذاب. فبشروا وأنذروا بهذا الذي عرفوه.ويروي ابن إسحاق أن مقالة الجن انتهت عند هذه الآية. ولكن السياق يوحي بأن الآيتين التاليتين هما من مقولات النفر أيضاً. ونحن نرجح هذا وبخاصة الآية التالية:{ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين}.فهي تكملة طبيعية لنذارة النفر لقومهم فقد دعوهم إلى الاستجابة والإيمان. فالاحتمال قوي وراجح أن يبينوا لهم أن عدم الاستجابة وخيم العاقبة. وأن الذي لا يستجيب لا يعجز الله أن يأتي به ويوقع عليه الجزاء. ويذيقه العذاب الأليم؛ فلا يجد له من دون الله أولياء ينصرونه أو يعينونه. وأن هؤلاء المعرضين ضالون ضلالاً بيناً عن الصراط المستقيم.وكذلك الآية التي بعدها يحتمل كثيراً أن تكون من كلامهم، تعجيباً من أولئك الذين لا يستجيبون لله؛ حاسبين أنهم سيفلتون، أو أنه ليس هناك حساب ولا جزاء:{أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعيَ بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شئ قدير}..وهي لفتة إلى كتاب الكون المنظور، الذي ورد ذكره في أول السورة. وكثيراً ما يتضمن السياق القرآني مثل هذا التناسق بين قول مباشر في السورة، وقول مثله يجيء في قصة، فيتم التطابق بين مصدرين على الحقيقة الواحدة.وكتاب الكون يشهد بالقدرة المبدعة ابتداء لهذا الخلق الهائل: السماوات والأرض.ويوحي للحس البشري بيسر الإحياء بعد الموت. وهذا الإحياء هو المقصود. وصياغة القضية في أسلوب الاستفهام والجواب أقوى وآكد في تقرير هذه الحقيقة. ثم يجيء التعقيب الشامل: {إنه على كل شيء قدير}.. فتضم الإحياء وغيره في نطاق هذه القدرة الشاملة لكل شيء كان أو يكون.وعند ذكر الإحياء يرتسم مشهد الحساب كأنه شاخص للعيون:{ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}..
|